عصر جديد من عدم اليقين الاقتصادي العالمي
19 مايو 2025أحدثت الخطوة الأخيرة التي اتخذتها إدارة ترامب، والمتمثلة في فرض رسوم جمركية باهظة على عدد من الدول حول العالم، زلزالاً في الأسواق المالية العالمية. ويبدو جلياً أن عهد التجارة الحرة والتعددية الدولية، الذي كانت الولايات المتحدة تقوده منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قد شارف على الانتهاء. إذ باتت واشنطن تتعامل مع الحلفاء والخصوم على حدٍّ سواء كشركاء تجاريين متساوين، في إطار سياسة تهدف إلى تحقيق مبدأ "أمريكا أولاً".
أعتقد أن هذه الاستراتيجية تفتقر إلى الأسس الموضوعية السليمة، وقد تُفضي إلى وضع الاقتصاد الأمريكي في موقف حرج، إذ إن العديد من الدول قد تُصبح أقل رغبة في إقامة علاقات تجارية معه، فيما قد تعيد التكتلات الاقتصادية العالمية النظر في سياساتها التجارية. وقد يغدو التعامل مع أكبر اقتصاد في العالم غير مجدٍ من الناحية الاقتصادية. ومن خلال انتهاج سياسة العزلة، قد ترتد هذه الاستراتيجية على الولايات المتحدة ذاتها، فتجد نفسها في موقع الدولة المنبوذة على الساحة الدولية. وبالرغم من أن الولايات المتحدة تعد فاعلًا رئيسيًا في منظومة التجارة العالمية، فإن بقية دول العالم لا تقل عنها أهمية أو تأثيرًا.
لم يتم استقبال هذه الأخبار بشكل جيد، إذ أنه يُلقي بالاقتصاد العالمي في مياه مجهولة، ويوجه له ضربة جديدة مرة أخرى. فمنذ بداية الألفية، تعرض الاقتصاد العالمي لضغوط هائلة، بدءًا من انفجار فقاعة "الدوت كوم"، وأزمة المال العالمية في عام 2008، وأزمة الديون السيادية الأوروبية، وجائحة كوفيد-19، والآن هذه الأزمة. لقد تلقى الاقتصاد العالمي سلسلة من الضربات القاسية خلال هذه الفترة، ورغم ما أظهره من قدرة على الصمود، فإنه لم يتعافَ بشكل كامل من الآثار العميقة التي خلفتها أزمة 2008، والتي شهدت إغلاق مؤسسات مالية، وانهيار أسواق الأسهم، وحدوث ركود عالمي غير مسبوق منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي.
تُظهر السياسات المتسارعة والحاسمة التي ينتهجها ترامب رغبته في إحداث تحول عميق في مكانة الدولار الأمريكي على المستوى العالمي. فلطالما كان الدولار العملة المفضلة في المعاملات الدولية، ما يدفع الدول والشركات إلى تصدير منتجاتها إلى الولايات المتحدة أكثر من استيرادها منها، بهدف اكتساب الدولار الأمريكي ذي القيمة المرتفعة. ومن خلال التوجه نحو خفض قيمة الدولار، يسعى ترامب إلى قلب هذا التوازن، بحيث تصبح المنتجات الأمريكية أكثر تنافسية من حيث السعر، ما قد يؤدي إلى زيادة الصادرات وتعزيز الإيرادات الداخلية. إلا أن مثل هذا التحول الجذري قد تكون له تداعيات سلبية بعيدة المدى، من شأنها الإضرار بصورة الولايات المتحدة وحزبه السياسي على الساحة الدولية لسنوات قادمة.
أحدث التطورات تشير إلى أن الولايات المتحدة قد فرضت رسومًا جمركية بنسبة 125% على الواردات الصينية، في حين ردّت الصين بالمثل بفرض رسوم جمركية بنفس النسبة على السلع الأمريكية. ولا تساهم هذه الإجراءات في معالجة الجروح العميقة التي تعاني منها العلاقات الدولية في الوقت الراهن. وسيكون المستهلك الأمريكي هو الأكثر تأثرًا بهذه السياسات، إذ أنه حتى لو تمكنت الولايات المتحدة من إنتاج كميات توازي ما تنتجه الصين لتلبية احتياجات السوق المحلي، فإنها لن تتمكن ببساطة من منافسة الأسعار التي تقدمها الصين. فقد تمكنت الصين من تطوير اقتصادات الحجم الكبير والخبرة المتخصصة التي استغرقت منها خمسين عامًا لبنائها، بالإضافة إلى قوة عاملة ضخمة يصعب على الولايات المتحدة تقليدها أو إعادة تشكيلها في فترة زمنية قصيرة.
لا استثناءات في هذا الأمر، ويجب علينا في هذه المنطقة أن نتهيأ للأوقات الصعبة التي تنتظرنا. بالنسبة لدول في الشرق الأوسط، هذه الإجراءات الجديدة تشكل تحديات كبيرة، لكنها في المقابل توفر فرصًا للتكيف وتعزيز القدرة الاقتصادية على الصمود. وبصفتي مستشارًا في المجلس الاستشاري لمنظمة التجارة العالمية ومؤيدًا قويًا لتعزيز الصمود الاقتصادي، أدعو دول الشرق الأوسط والشركات إلى تبني استراتيجيات استباقية للتعامل مع هذه التحديات والحد من آثارها.
تشمل الاستجابات الاستراتيجية لدولنا ما يلي:
تنويع الأسواق التصديرية لتوفير سبل بديلة للنمو.
تعزيز الاتفاقيات التجارية الإقليمية.
دراسة سلاسل التوريد البديلة وتعزيز التصنيع المحلي.
رفع جودة الإنتاج لتقليل الاعتماد على الواردات.
تحسين إجراءات التخليص الجمركي لتيسير التجارة والاستفادة بشكل أفضل من المناطق الحرة.
تخفيف قيود التأشيرات بهدف تنشيط الحركة التجارية، وتعزيز ثقافة تجارية أكثر انفتاحًا وتعاونًا بين الدول.
هذه بعض الاقتراحات المتواضعة من جانبي، أرى أنها قد تسهم في التخفيف من حدة التداعيات التي سيحملها الوضع الجديد. ونظرًا لأننا أمام مشهد يتطور بشكل ديناميكي ومتسارع، فإنه يتعين علينا أن نبقى على اطلاع دائم بنبض العالم، وأن نتحلى بالمرونة الكافية للتعامل مع بيئة متغيرة يبدو أن كل شيء فيها بات ممكنًا.
هذه جملة من المقترحات المتواضعة التي أعتقد أنها قد تساهم في التخفيف من وطأة التداعيات التي قد يفرضها الواقع الجديد. ونظرًا إلى أن هذا المشهد يتسم بالتغير المستمر والتطور المتسارع، فإنه من الضروري أن نظل على تواصل دائم مع المستجدات العالمية، وأن نتمتع بالمرونة اللازمة للاستجابة الفاعلة لبيئة دولية تتغير ملامحها باستمرار، حيث لم يعد هناك ما يُستبعد من الاحتمالات.
لا شك أن الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة قد دشّنت مرحلة من الغموض وعدم اليقين على الصعيد العالمي. وكما هو الحال في كل أزمة، تنطوي التحديات على فرص كامنة، وهذه تمثل فرصة جوهرية أمام منطقة الشرق الأوسط لتعزيز الابتكار، وتوسيع قاعدة التنويع الاقتصادي، وتوثيق أواصر التعاون الإقليمي وتفعيل الشراكات الدولية. ومن خلال اعتماد إصلاحات استراتيجية والاستفادة من التطورات التكنولوجية المتسارعة، فإنني أؤمن بأن المنطقة قادرة ليس فقط على اجتياز هذه المرحلة العصيبة، بل على الخروج منها أكثر قوة واستعدادًا لمواجهة المستقبل.
طلال أبوغزاله