طلال أبوغزالة الحياة.. وإن قست
طلال أبوغزالة ارتبط اسمه بتاريخ القضية الفلسطينية، فى عمر السنوات العشر حلت النكبة وكان وعائلته العريقة شهودًا على لحظة التهجير القسرى المؤلمة فى عام 1948، قصتة الشهيرة تؤرخ للصراع، من زوايا متنوعة، منها أنه أحد شهود العيان على حدث يقسم التاريخ بين الصواب والخطأ، وأنه يرفع رسالة المقاوم الذى يتسلح بالعلم والمعرفة للتصدى للعدو وكسر غطرسته فى المحافل الدولية، فضلًا عن أنه تفوق فى المواجهات التى تستند إلى معايير العدالة والكفاءة.
رمزية اسم طلال أبوغزالة تضىء الطريق نحو قائمة الشرف التى تحوى القامات الفلسطينية الملهمة المثابرة.
خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت التى عاش فيها سنوات الطفولة والشباب، وشهدت أهم قصص التحدى والكفاح فى حياته تعرض لطارئ صحى بعد ان سقط من حافة المقعد، وتسبب السقوط فى كسر فى الحوض ودخوله مسنشفى "كليمنصو" فى بيروت؛ لإجراء عملية جراحية عاجلة، انهالت الاتصالات للاطمئنان عليه، من جميع أقطار العالم وحتى يبث الطمأنينة فى القلوب ظهر من داخل حجرته فى المستشفى يتحدث بثقة فى الله سبحانه وتعالى وإصرار كبير على استمرار الحياة، كما كانت وإن قست يتابع شئون مؤسسته العملاقة بشكل يومى يطالع التقارير والرسائل الإلكترونية، عاداته فى الحياة العمل، يجد متعة، وهو يجلس خلف مكتبه.. فى صباح يوم العيد ينزل إلى المكتب.. فى العطلات الرسمية يداوم فى المؤسسة، ارتباط عاطفى يتجاوز التفسير البسيط للأمور، لكنه يرسخ من خلاله قاعدة مهنية تتوراثها الأجيال، وهى أن العمل كما التنفس دونهما لا حياة.
طلال أبوغزالة الشخصية القوية التى تمنح الثقة لمن حوله، الرجل الذى يختزل فضيلة التواضع، كما لو كان يحتكرها، يتفاخر بالسنوات الصعبة التى عاشها فى صيدا لبنان بعد التهجير من يافا، ويتذكر دومًا بساطة الحياة التى كان يعيشها وعائلته وعدم قدرة الأب على تدبير أبسط الضروريات ما أوجد لديه طاقة هائلة من الصبر والمثابرة، وبين تلك الأيام والحياة الجديدة التى صنعها وعبر بها إلى قوائم الأكثر تأثير فى العالم، لم تتغير الجينات داخله بل أصبحت أكثر تأثير فى قراراته وتوجهاته.
فى ظهوره الأخير من فوق فراش المرض، بدت صورته محاطة بدعوات المخلصين، تمنحه طاقة كبيرة لتحمل وجع الكسر وعدم القدرة على الحركة كما هى العادة، و تعكس صورته أن الابتسامة التى تكسو وجهه لا تتغير على الرغم من الآلام المبرحة، هى الحياة وإن قست فى بعض الوقت، لكنها سرعان ما تجدد قسوتها بلطائف التدبر وإتمام الشفاء، عندها تهون الأيام الصعبة، وتعود إلى طبيعتها.
من يعرف طبيعة شخصيته يتيقن أنه يحسب الدقائق حتى حلول تلك اللحظة التى فيها يبارح غرفة المرض إلى فناء مجموعته يصعد إلى مكتبه الأثير الذى لا تخطئه العين من حيث الشكل والمضمون فهو تصميم يتطابق فى جميع مكاتب مجموعته التى تنتشر فى مدن العالم وتزين جدران هذه المكاتب صور جمعته مع ملوك ورؤساء ملهمين فى تاريخ الإنسانية.
أبوغزالة فى هذه المحنة كما لو كان يتشارك عضويًا ووجدانيًا مع مأساة شعب فلسطين فى غزة ومدن الاحتلال، هو ابن يافا وفلسطين وبيت والده ما يزال شاهدًا على أن الأرض، وإن غادر منها سكانها الطبيعيون تلفظ وجود المحتل حتى وإن سخر كل ما يملك لتطويعها. وتعكس هذه الحقيقة قصة الفتاة الرقيقة جمانة ابنة أبوغزالة التى زار بيت جدها فى يافا، وعندما شاهدها المحتل الذى يقطن البيت العريق ارتعد خوفًا، فهو مغتصب لا يشعر بنعمة الأمان.
دكتور طلال أبوغزالة، نترقب أن تعود إلى حياتك الطبيعية فى أسرع وقت، وإن كانت الدعوات عن بُعد، فهى قطعًا موصولة بالرجاء من القدير بأن يمن الله عليكم بالشفاء، وأن يحفظ فلسطين وشعبها.
بقلم: ماهر مقلد