صِنَاعَةُ المَعْرِفَةِ بَيْنَ الفَرْدِ والمُجْتَمَع
28 نوفمبر 2020 د.عماد الخطيبما نعيشه الآن هو بداية عصر المعرفة، ولكن في المستقبل القريب يجب أن ننتقل إلى عصر الحكمة، بمعنى استخدام المعرفة لما فيه مصلحة الإنسانية.
وتعدّ صناعة الفرد للمعرفة المرحلة الأولى في خلق مجتمعه المعرفيّ، فالفرد الصانع للمعرفة العامل فيها ولها والمجتمع المعرفي "شريانان للقلب نفسه"؛ فعامل المعرفة يُنَمّي عمله المهني في البحث عن الأفكار والمعلومات، ويهتمّ بالذّهنية كي تصير أساسًا في معيارية إنتاجه للأعمال وقياس إنجازه لها.
وما أقصده بالمعرفة هو استخدام التقنية في صنع المعلومة، ثم نشرها، ثم تحويلها إلى منتَج، ثم إلى ثروة؛ لأن صانع المعرفة هو صانع ثروة.
لقد أجرت بعض الشركات تعديلًا جوهريّا في سياساتها التصنيعية وعمدت إلى مشاركة موظفيها، في صنع القرار وابتكار الحلول ورفع كفاءة الإنتاج، مما جعل العاملين أكثر إدراكًا لدورهم المعرفيّ: فازدادوا حماسًا، وتحرروا من الرّوتين وارتفع مستوى المنتج فيها... فازدادت المبيعات.
تستند مؤسسات مجتمع المعرفة إلى تدريبٍ كافٍ يكفل لها أن تدير نفسها وفقًا لما تمتلكه من خبراتٍ معلوماتية، ويمكن قياس فاعلية إدارتها بحجم إنتاجها، وهذا يكون إذا أُحسِنَ توظيف المعارف، وأُتقِنَ تحليلها ثم استخلاص المفيد منها، مما يخلق ثروة معرفية/ معلوماتية تسهم في مجتمع معرفي ذي مستوى ملحوظ وقابل للتطور من خلال حفظ معارفه دائمة التوسع في بيئات تخزين قوية، مِمَّا سيجعل محيطنا العربي-كما أتوقع- خلال العقد القادم أُمّة منتجة للمعرفة ومصدَّرة لها.
فإلى أي مدى تُضْبط مؤشرات مجتمعاتنا العربية نحو (بوصلة) المعرفة؟
لا يختص مجتمع المعرفة بمجالٍ دون آخر؛ فمن المؤسسات التطوعية إلى المؤسسات التربوية، أو الاقتصادية، أو الإعلامية، تحتاج كلها إلى خلق مجتمعٍ معرفيٍّ إنتاجيٍّ منافس، يكون بتطويع أنفسنا نحو استثمار المعارف الجديدة، والتكنولوجيا الرقمية، ومشاريع الذكاء الاصطناعي، متممين دور أسلافنا الحكماء.
وينقسم الابتكار المعرفي إلى قسمين: تراكمّي وجذريّ.
أما التراكمي فهو موجات متلاحقة من التطوير الذي يتّسم مستوى الجدّة فيه بـ "المحدود نسبيًّا"، و أما الجذري فهو تطوير المنتَج دفعةً واحدة.
ويقسمه البعض إلى ثلاثة أقسام نسبةً إلى الفرد (صانع المعرفة)، فيضعون في التراكمي المؤلّفين من كافة أطيافهم، ويضعون في الجذري مدراء الأصول المعرفية، ويضعون في القسم الثالث صانعي الاستثمار المخترعين والمبتكرين.
ويعلمنا طلال أبوغزاله..
أنه لقد آن الأوان لتميّز صانعي المعرفة في عالمنا العربي بخصائص عامل المعرفة أينما كان من: تقديسٍ للمعرفة، وشغفٍ بحب الاستكشاف وديمومة الاطلاع ورغبةٍ في البحث المستمر والابتكار؛ لصناعة ثورة نتاج ابتكارية معرفية لا حدود لها، فعليك أن " تبحث عن المعرفة؛ لأن المعرفة لا تبحث عن أحد".
وحتى تكون مؤهلاً لصناعة المعرفة، وفردًا منتجًا مبدعًا لابد أَنْ تتحلى بـ "طلب المعرفة" ثم بـ "تعلّمها" والعمل بها، وكثير مما ستكتشفه من معارف، في مجال عملك سيكون مختلفًا عَمَّا درسته.
وأخيرًا، إنَّ صانع المعرفة ينظر لنفسه على أنه بحاجةٍ يومية إلى العلم، والتعلّم، وإن حاجته للعلم تساوي حاجته للغذاء، بل تتفوق أحيانا، وفي اللحظة التي يستغني الفرد فيها عن التعلّم يفقد أهليته كعامل معرفة وصانع لها.
إذن، علينا أفرادًا ومجتمعات أن نؤهل أنفسنا لنكون صانعي معرفة بقضاء مدة طويلة في ممارسة ما تعلمناه وما سنتعلمه لتأهيل أنفسنا بما يُمكّن مجتمعاتنا من الإمساك بخيط المعرفة: نظريًّا وتطبيقيًّا مما سيؤهلنا للولوج إلى اكتشاف منهجٍ سليم في تحصيل معلوماتنا المفيدة تجاه عالمنا المعرفي ومجتمعنا الذي هو مرآته.
ويبدأ مجتمع المعرفة منذ تربية الأطفال وتوعيتهم، وتوجيههم نحوه ليكون أداة ابتكاراتهم واختراعاتهم في المستقبل، ولضرب نموذج على (التربية المعرفية للأطفال) نضرب نموذجًا في تعليمهم طريقة توفير لمصروفاتهم من أجل شراء جهاز حاسب يشجعهم على الإبداع والتفكير، ويجعلهم يتنافسون مع أقرانهم على تصميم برامج حاسبية وإنتاج أعمال إبداعية بدلا من منافستهم لأقرانهم في امتلاك ألعاب لا علاقة له بالذهنية أو التفكير، مع عدم نسيان أهمية تدريب الطفل على (استثمار وقت اللعب) من أجل تطوير معارفه وسلوكاته.
وللحوار الأسري دوره في خلق مجتمع المعرفة، إذ يُربّي في الأبناء الحافز على اكتساب المعلومات وحب المعرفة والاختراع، فعلينا كما نحسن الاهتمام بترغيب أبنائنا في زيادة معارفهم من خلال تحصيل الشهادات العلمية، علينا أن نحسن الاهتمام في ترغيبهم للتعامل مع مجالات تقنية المعلومات بكافة أشكالها المشاهدة والمقروءة والمسموعة، وتلقفها أينما كانت؛ لتكون تمويلًا ثريًا يردف عقولهم بالمكتسبات المعلوماتي والمهارات اللازمة للاختراع والابتكار فنزيد من فرص أمتنا كي تكون في مصاف أرقى الأمم كما عُهِدَ عنها وكما يجب لها أن تكون، فلا ينقصنا شيء عن "فنلندا" التي أصبحت تقود ثورة التعلّم المعرفي في العالم، ولا عن "سنغافورة" أو "ماليزيا" أو حتى "السويد"، وعلينا أن نتعلم منهم ومن غيرهم الاستكشاف المبني على المعرفة، ولا شيء سوى المعرفة، فحتى اليوم أعدّ نفسي تلميذًا، أتعلّم ممن هو أكثر علمًا، وأتلقى المعرفة من مصادرها وأضيفها إلى ما امتلكه من مخزون، وكل هذا من أجل أن أصبح إنسانًا أفضل، ويحيطني مجتمع أفضل.